في نهايات عام 2000، كنت طالباً في البكالوريا، وعندما كنت أشعر بالضجر من الدراسة - كثيراً ما كنت أضجر منها حقيقة - كنت ألجأ إلى أغاني الفنان خوشناف تيلو  للترويح عن نفسي وأخذ جرعة روحية.


كانت من أكثر أغانيه التي تستهويني أغنية "Kerwan" (القافلة)، و"Li paş pencerê" (من خلف النافذة). وصدف أكثر من مرة أن تدخل أمي إلى غرفتي لتجدني واقفاً أمام النافذة، أستمع إلى خوشناف وأردد أغانيه، فكانت تقول لي ساخرة: "أحسنت يا بني.. ستشبعك أغنية "كروان" خبزاً" في المستقبل.

الآن كلما أتذكر كلمات أمي وحرصها على دراستي، أبتسم. صحيح أن تلك الأغاني لم تطعمني خبزاً، إلا أنها غذت روحي وحافظت عل توزاني النفسي. كنت ومازلت أسافر مع تلك الأغنية الساحرة إلى عوالم بعيدة!

نمط موسيقي مختلف

خوشناف (Xoşnav) ويعني  الاسم الجميل بالكردية، والاسم مؤلف من مقطعين الاسم  (nav ) والجميل (xoş).  

خوشناف تيلو ابن مدينة القامشلي، مدينة الحب والعشاق، حظي بحضور كبير قبل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية، بين العشاق في المناطق الكردية السورية.

عبّرت أغانيه عن لواعج العشاق بطريقة بالغة الرومانسية، فكلماته كانت ولازالت تبوح بما يعتلج في القلوب، وكثيراً ما كان "كاسيته" يصبح إهداء للحبيب أو الحبيبة.

نجح خوشناف ببراعة في تأسيس نمطه الخاص والمميّز بين الموسيقى الكردية في جميع أغانيه منذ انطلاق ألبومه الأول. إذ اعتمد في جل كلمات أغانيه على كلمات بسيطة وعميقة في ذات الوقت، لا تستعصي على فهم الشخص العادي وترضي ذائقته.

كلماته، بعيدة عن التكلف والمراوغة اللغوية، وتلامس أحاسيس مستمعيه في الوقت نفسه. وتأتي ألحانه المتوافقة مع رهافة صوته وكلماته البسيطة، مع توزيع موسيقي متقدم على معظم الفنانين الكرد.

خوشناف تمرّد في نمطه الفني على الرتابة في الأغنية الرومانسية الكردية، كما أن كلمات أغانيه تميزت بصور واستعارات جديدة، كانت، ولا تزال، جديدة في الأغنية الكردية.

تواضع ورهافة

بالإضافة إلى تميّزه الفني، يتسم الفنان خوشناف تيلو برهافة عالية في إحساسه، ودمعته تنهمر مع أي حدث إنساني، كما يظهر في جميع مقابلاته ولقاءات في غاية التواضع، وهو أمر لا تجده لدى كثير من الفنانين!

حظيتُ بفرصة لقائه عام 2014 في مدينة أزمير التركية، حيث أحيا مع الفنانيين زبير صالح وبرادر، حفلاً خيرياً ذهب ريعه للاجئين السوريين، نظمته جمعية بركات وجمعية إغاثة اللاجئين السوريين.

في ذلك اللقاء كان حديثه هادئاً رصيناً، يبث طاقة إيجابية تجاه كل من حوله، وله قدرة كبيرة على الاستماع دون أن يبدي تململاً أو تأففاً.

أخبرته حينها بأني شاعر، وقرأت عليه بعضاً من نصوصي، فسألني هل تكتب بالكردية أيضاً؟ فقلت خجلاً: لدي بعض المحاولات البسيطة في كتابة نصوص بالكردية؟ قال عن نصوصي أنها جميلة، ما دفعني أكثر على الاهتمام بكتابة القصيدة الكردية.. وأردف قائلاً: أتمنى لو كنت أغني بالعربية لكنت غنيت قصائدك!

القافلة تسير

للفنان خوشناف تيلو مجموعة من الأغاني المتميزة، تتنوع مواضيعها بين العشق والاشتياق إلى الوطن، والشعور بالغربة، والوحدة والضياع، وغيرها، وبما أنني لست بصدد تناول سيرته هنا، فقد اخترت أغنيتين لأتحدث عنهما هنا.

أغنية خوشناف المفضلة لدي "كروان"، والتي يظن الكثيرون أنها للفنان الكردي-التركي الشهير  أحمد كايا (Ahmed kaya) بعد أن غناها، لم أشعر أن أداءه ارتقى إلى مستوى أداء خوشناف للأغنية، ولكن تعد من الأغاني القليلة التي غناها كايا  بلغته الأم، وهذا دليل على أنها تركت أثراً كبيراً في نفسه، حتى أقدم على أدائها.

الاستعارات المستخدمة في أغنية "كروان" مؤثرة تأتي لإيصال أشواق العاشق إلى مدينته البعيدة، إلى أمه، إلى أبيه، إلى حبيبته التي تعبت عيونها من النظر إلى طريق عودته. والقافلة في كل الثقافات كانت تخيم في الليل وصباحا عندما تغادر، تترك خلفها الرماد والدخان المتبقي من النار  الذي تم إشعاله.


https://www.youtube.com/watch?v=8sqYiFxnXQg


الترجمة العربية لأغنية "كروان" (القافلة)

كلمات الأغنية وكما ترجمها الشاعر نوزاد جعدان بتصرف إلى العربية ضمن كتاب نشره عام 2017 عن دار نبطي تحت عنوان مختارات من الشعر العالمي.

" القافلة تسير والينابيع تنساب

لم تترك شيئاً وراءها

سوى النار والدخان

وريح غجرية تؤرق العيون الناعسة

كي لا تحظى بالرقاد

تشعل تلك الذكريات

كالنار المختبئة في الرماد

على تلك العيون الدامية

والشفاه المتحسرة بالآهات

القافلة تسير بعجلة

إلى مدينتي البعيدة

أخبروا أمي وقولوا لأبي

على مفترق الطرق، فلتنتظرني حبيبتي

سأعود حتماً، حتماً سأعود

في يوم بعد كل هذه الأيام".

من خلف النافذة

أما أغنيته "Li paş pencerê" (من خلف النافذة) عشت معها علاقة روحية  طويلة، قمت بترجمتها إلى العربية، وربما لم أتمكن من إيصال الصورة التي يقدّمها خوشناف إلى جمهوره بأدائه وموسيقاه المتجانسين مع الكلمات الكردية.

 عندما تسمع الأغنية في يوم عاصف، وأنت تقف أمام النافذة، تنظر إلى قطرات المطر المتساقط بغزارة في الخارج على زجاج النافذة، تسرح في خيالك تتذكر الماضي والحاضر وتتكهن المستقبل، حتما ستصل إلى اللوحة الجميلة التي كونها خوشناف بأغنيته.

https://www.youtube.com/watch?v=dew_tSunez0


الترجمة العربية لأغنية "من خلف النافذة" 

من خلف النافذة،

"من خلف النافذة، الجو عاصف اليوم

هذا البرد وهذا المطر

الشتاء.. إنه الشتاء

** *

هذه الأيام في الشمال (اسكندنافيا)

معتمة ومرّة

وحيد أنا

أخاف من الوحدة

أسأل الله، من أنا؟

 ومن أين...من أين أتيت؟

والى أين أمضي؟

ما هذا الحلم الذي سرت خلفه

حتى أتى يوم فقدت فيه الإيمان

** *

من خلف النافذة،

"من خلف النافذة، الجو عاصف اليوم

هذا البرد وهذا المطر

الشتاء.. إنه الشتاء

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).